الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
ثم قال المعترض: قال أبو الفرج ابن الجوزي في الرد على الحنابلة: إنهم أثبتوا لله ـ سبحانه ـ عينًا، وصورة، ويمينًا، وشمالاً، ووجهًا زائدًا على الذات، وجبهة، وصدرًا، ويدين، ورجلين، وأصابع، وخنصرًا، وفخذًا، وساقًا، وقدمًا، وجنبًا، وحِقْوًا [الحِقْو: هو الكشح والإزار، أو هو معقده] وخلفًا، وأمامًا، وصعودًا، ونزولاً، وهرولة، وعجبًا، لقد كملوا هيئة البدن! وقالوا: يحمل على ظاهره، وليست بجوارح، ومثل هؤلاء لا يحدثون، فإنهم يكابرون العقول، وكأنهم يحدثون الأطفال. قلت: الكلام على هذا فيه أنواع: الأول: بيان مافيه من التعصب بالجهل والظلم قبل الكلام في المسألة العلمية. الثاني: بيان أنه رد بلا حجة ولا دليل أصلاً. الثالث: بيان ما فيه من ضعف النقل والعقل. أما أولا: فإن هذا المصنف الذي نقل منه كلام أبي الفرج لم يصنفه / في الرد على الحنابلة كما ذكر هذا، وإنما رد به ـ فيما ادعاه ـ على بعضهم، وقصد أبا عبد الله بن حامد والقاضي أبا يعلى وشيخه أبا الحسن بن الزاغوني ومن تبعهم، وإلا فجنس الحنابلة لم يتعرض أبو الفرج للرد عليهم، ولا حكى عنهم ما أنكره، بل هو يحتج في مخالفته لهؤلاء بكلام كثير من الحنبلية، كما يذكره من كلام التميميين، مثل: رزق الله التميمي [هو أبو محمد عبد الوهاب بن عبد العزيز بن يزيد البغدادي، الشيخ الإمام الواعظ، كان فقيه الحنابلة، ولد سنة 400هـ، وتوفى سنة 488هـ]، وأبي الوفا بن عقيل، ورزق الله كان يميل إلى طريقة سلفه، كجده أبي الحسن التميمي، وعمه أبي الفضل التميمي، والشريف أبي علي بن أبي موسى ـ هو صاحب أبي الحسن التميمي ـ وقد ذكر عنه أنه قال: لقد خرِئ [تَغَوَّط] القاضي أبو يعلى على الحنابلة خَريَةً لا يغسلها الماء. وسنتكلم على هذا بما ييسره الله، متحرين للكلام بعلم وعدل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فمازال في الحنبلية من يكون ميله إلى نوع من الإثبات الذي ينفيه طائفة أخرى منهم، ومنهم من يمسك عن النفي والإثبات جميعًا. ففيهم جنس التنازع الموجود في سائر الطوائف، لكن نزاعهم في مسائل الدِّق، وأما الأصول الكبار فهم متفقون عليها، ولهذا كانوا أقل الطوائف تنازعًا وافتراقًا، لكثرة اعتصامهم بالسنة والآثار؛ لأن للإمام أحمد في باب أصول الدين من الأقوال المبينة ـ لما تنازع فيه الناس ـ ما ليس لغيره. وأقواله مؤيدة بالكتاب والسنة واتباع سبيل السلف الطيب؛ ولهذا كان جميع من ينتحل السنة من طوائف الأمة ـ فقهائها ومتكلمتها وصوفيتها ـ ينتحلونه. /ثم قد يتنازع هؤلاء في بعض المسائل، فإن هذا أمر لابد منه في العالم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن هذا لابد من وقوعه، وأنه لما سأل ربه ألا يلقي بأسهم بينهم منع ذلك، فلابد في الطوائف المنتسبة إلى السنة والجماعة من نوع تنازع، لكن لابد فيهم من طائفة تعتصم بالكتاب والسنة، كما أنه لابد أن يكون بين المسلمين تنازع واختلاف، لكنه لا يزال في هذه الأمة طائفة قائمة بالحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى تقوم الساعة. ولهذا لماكان أبو الحسن الأشعري وأصحابه منتسبين إلى السنة والجماعة، كان منتحلاً للإمام أحمد، ذاكرًا أنه مقتد به متبع سبيله. وكان بين أعيان أصحابه من الموافقة والمؤالفة لكثير من أصحاب الإمام أحمد ما هو معروف، حتى إن أبا بكر عبد العزيز يذكر من حجج أبي الحسن في كلامه مثل ما يذكر من حجج أصحابه؛ لأنه كان عنده من متكلمة أصحابه. وكان من أعظم المائلين إليهم التميميون؛ أبو الحسن التميمي، وابنه، وابن ابنه، ونحوهم، وكان بين أبي الحسن التميمي وبين القاضي أبي بكر ابن الباقلاني من المودة والصحبة ما هو معروف مشهور؛ ولهذا اعتمد الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه الذي صنفه في مناقب الإمام أحمد ـ لما ذكر اعتقاده ـ اعتمد على ما نقله من كلام أبي الفضل عبد الواحد بن أبي الحسن التميمي. وله في هذا الباب مصنف ذكر فيه من اعتقاد أحمد ما فهمه، ولم يذكر فيه ألفاظه، وإنما ذكر جمل الاعتقاد بلفظ نفسه، وجعل يقول: [وكان أبوعبد الله].وهو بمنزلة من يصنف / كتابًا في الفقه على رأي بعض الأئمة، ويذكر مذهبه بحسب ما فهمه ورآه، وإن كان غيره بمذهب ذلك الإمام أعلم منه بألفاظه وأفهم لمقاصده، فإن الناس في نقل مذاهب الأئمة قد يكونون بمنزلتهم في نقل الشريعة. ومن المعلوم أن أحدهم يقول: حكم الله كذا، أو حكم الشريعة كذا بحسب ما اعتقده عن صاحب الشريعة، بحسب ما بلغه وفهمه، وإن كان غيره أعلم بأقوال صاحب الشريعة وأعماله وأفهم لمراده. فهذا ـ أيضًا ـ من الأمور التي يكثر وجودها في بني آدم؛ ولهذا قد تختلف الرواية في النقل عن الأئمة، كما يختلف بعض أهل الحديث في النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم، فلا يجوز أن يصدر عنه خبران متناقضان في الحقيقة، ولا أمران متناقضان في الحقيقة إلا وأحدهما ناسخ والآخر منسوخ، وأما غير النبي صلى الله عليه وسلم فليس بمعصوم، فيجوز أن يكون قد قال خبرين متناقضين، وأمرين متناقضين ولم يشعر بالتناقض. لكن إذا كان في المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يحتاج إلى تمييز ومعرفة ـ وقد تختلف الروايات حتى يكون بعضها أرجح من بعض والناقلون لشريعته بالاستدلال بينهم اختلاف كثير ـ لم يستنكر وقوع نحو من هذا في غيره، بل هو أولى بذلك؛ لأن الله قد ضمن حفظ الذكر الذي أنزله على رسوله، ولم يضمن حفظ ما يؤثر عن غيره؛ لأن ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة هو هدى الله الذي جاء من عند الله، وبه يعرف سبيله وهو حجته على عباده، /فلو وقع فيه ضلال لم يبين لسقطت حجة الله في ذلك، وذهب هداه، وعميت سبيله؛ إذ ليس بعد هذا النبي نبي آخر ينتظر ليبين للناس ما اختلفوا فيه، بل هذا الرسول آخر الرسل، وأمته خير الأمم؛ ولهذا لا يزال فيها طائفة قائمة على الحق بإذن الله، لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى تقوم الساعة. الوجه الثاني: أن أبا الفرج نفسه متناقض في هذا الباب، لم يثبت على قدم النفي ولا على قدم الإثبات، بل له من الكلام في الإثبات نظمًا ونثرًا ما أثبت به كثيرًا من الصفات التي أنكرها في هذا المصنف. فهو في هذا الباب مثل كثير من الخائضين في هذا الباب من أنواع الناس يثبتون تارة، وينفون أخرى في مواضع كثيرة من الصفات، كما هو حال أبي الوفاء ابن عقيل وأبي حامد الغزالي. الوجه الثالث: أن باب الإثبات ليس مختصًا بالحنبلية، ولا فيهم من الغلو ما ليس في غيرهم، بل من استقرأ مذاهب الناس وجد في كل طائفة من الغلاة في النفي والإثبات ما لا يوجد مثله في الحنبلية، ووجد من مال منهم إلى نفي باطل أو إثبات باطل، / فإنه لا يسرف إسراف غيرهم من المائلين إلى النفي والإثبات، بل تجد في الطوائف من زيادة النفي الباطل والإثبات الباطل ما لا يوجد مثله في الحنبلية. وإنما وقع الاعتداء في النفي والإثبات فيهم مما دب إليهم من غيرهم الذين اعتدوا حدود الله بزيادة في النفي والإثبات؛ إذ أصل السنة مبناها على الاقتصاد والاعتدال دون البغي والاعتداء. وكان علم الإمام أحمد وأتباعه، له من الكمال والتمام، على الوجه المشهور بين الخاص والعام،ممن له بالسنة وأهلها نوع إلمام، وأما أهل الجهل والضلال، الذين لا يعرفون ما بعث الله به الرسول، ولا يميزون بين صحيح المنقول وصريح المعقول، وبين الروايات المكذوبة والآراء المضطربة، فأولئك جاهلون قدر الرسول والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين نطق بفضلهم القرآن، فهم بمقادير الأئمة المخالفين لهؤلاء أولى أن يكونوا جاهلين؛ إذ كانوا أشبه بمن شاق الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين من أهل العلم والإيمان، وهم في هذه الأحوال إلى الكفر أقرب منهم للإيمان. تجد أحدهم يتكلم في أصول الدين وفروعه بكلام مَنْ كأنه لم ينشأ في دار الإسلام، ولاسمع ما عليه أهل العلم والإيمان، ولا عرف حال سلف هذه الأمة، وما أوتوه من كمال العلوم النافعة والأعمال الصالحة، ولا عرف مما بعث الله به نبيه ما يدله على الفرق بين الهدى والضلال، والغي والرشاد. / وتجد وقيعة هؤلاء في [أئمة السنة وهداة الأمة] من جنس وقيعة الرافضة ومن معهم من المنافقين في أبي بكر، وعمر، وأعيان المهاجرين والأنصار، ووقيعة اليهود والنصارى ومن تبعهم من منافقي هذه الأمة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقيعة الصابئة والمشركين من الفلاسفة وغيرهم في الأنبياء والمرسلين، وقد ذكر الله في كتابه من كلام الكفار والمنافقين في الأنبياء والمرسلين وأهل العلم والإيمان ما فيه عبرة للمعتبر، وبينة للمستبصر، وموعظة للمتهوك [المتحيِّر] المتحير. وتجد عامة أهل الكلام ومن أعرض عن جادة السلف ـ إلا من عصم الله ـ يعظمون أئمة الاتحاد، بعد تصريحهم في كتبهم بعبارات الاتحاد ، ويتكلفون لها محامل غير ما قصدوه، ولهم في قلوبهم من الإجلال والتعظيم والشهادة بالإمامة والولاية لهم، وأنهم أهل الحقائق، ما الله به عليم. هذا ابن عربي يصرح في فصوصه: أن الولاية أعظم من النبوة، بل أكمل من الرسالة، ومن كلامه: مقام النبوة في برزخ ** فُوَيْقَ الرسول ودون الولي وبعض أصحابه يتأول ذلك بأن ولاية النبي أفضل من نبوته، وكذلك ولاية الرسول أفضل من رسالته، أو يجعلون ولايته حاله مع الله، ورسالته حاله مع الخلق وهذا من بليغ الجهل. فإن الرسول إذا خاطب الخلق، وبلغهم الرسالة لم يفارق الولاية، بل هو ولي / الله في تلك الحال، كما هو ولي الله في سائر أحواله، فإنه ولي الله ليس عدوًا له في شيء من أحواله، وليس حاله في تبليغ الرسالة دون حاله إذا صلى ودعا الله وناجاه. وأيضًا، فما يقول هذا المتكلف في قول هذا المعظم: إن النبي صلى الله عليه وسلم لبنة من فضة، وهو لبنتان من ذهب وفضة، ويزعم أن لبنة محمد صلى الله عليه وسلم هي العلم الظاهر، ولبنتاه الذهب: علم الباطن، والفضة: علم الظاهر، وأنه يتلقى ذلك بلا واسطة، ويصرح في فصوصه: أن رتبة الولاية أعظم من رتبة النبوة؛ لأن الولي يأخذ بلا واسطة والنبي بواسطة، فالفضيلة التي زعم أنه امتاز بها على النبي صلى الله عليه وسلم أعظم عنده مما شاركه فيه. وبالجملة، فهو لم يتبع النبي صلى الله عليه وسلم في شيء، فإنه أخذ بزعمه عن الله ما هو متابعه فيه في الظاهر، كما يوافق المجتهد المجتهد والرسول الرسول، فليس عنده من اتباع الرسول والتلقي عنه شيء أصلاً، لا في الحقائق الخبرية، ولا في الحقائق الشرعية. وأيضًا، فإنه لم يرض أن يكون معه كموسى مع عيسى، وكالعالم مع العالم في الشرع الذي وافقه فيه، بل ادعى أنه يأخذ ما أقره عليه من الشرع من الله في الباطن، فيكون أخذه للشرع عن الله أعظم من أخذ الرسول. / وأما ما ادعى امتيازه به عنه وافتقار الرسول إليه ـ وهو موضع اللبنة الذهبية ـ فزعم أنه يأخذه عن المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول. فهذا كما ترى في حال هذا الرجل، وتعظيم بعض المتأخرين له. وصرح الغزالي بأن قتل من ادعي أن رتبة الولاية أعلى من رتبة النبوة، أحب إليه من قتل مائة كافر؛ لأن ضرر هذا في الدين أعظم. ولا نطيل الكلام في هذا المقام؛ لأنه ليس المقصود هنا. وأيضًا، فأسماء الله وأسماء صفاته عندهم شرعية سمعية، لا تطلق بمجرد الرأي، فهم في الامتناع من هذه الأسماء أحق بالعذر ممن امتنع من تسمية صفاته أعراضًا. وذلك أن الصفات التي لنا منها ما هو عرَض كالعلم والقدرة، ومنها ما هو جسم وجوهر قائم بنفسه، كالوجه واليد، وتسمية هذه جوارح وأعضاء أخص من تسميتها أجسامًا؛ لما في ذلك من معنى الاكتساب والانتفاع والتصرف، وجواز التفريق والبعضية. /الوجه الرابع: أن هذا السؤال لا يختص بهؤلاء، بل إثبات جنس هذه الصفات قد اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، من أهل الفقه والحديث والتصوف والمعرفة وأئمة أهل الكلام من الكُلاَّبيَّة والكُرّامية والأشعرية، كل هؤلاء يثبتون لله صفة الوجه واليد ونحو ذلك. وقد ذكر الأشعري في كتاب المقالات أن هذا مذهب أهل الحديث، وقال: إنه به يقول. فقال في جملة مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث: جملة مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث: الإقرار بكذا وكذا، وأن الله على عرشه استوى، وأن له يدين بلا كيف، كما قال: وقد قدمنا فيما تقدم أن جميع أئمة الطوائف هم من أهل الإثبات، وما من شيء ذكره أبو الفرج وغيره مما هو موجود في الحنبلية ـ سواء كان الصواب فيه مع المثبت أو مع النافي، أو كان فيه تفصيل ـ إلا وذلك موجود فيما شاء الله /من أهل الحديث والصوفية، والمالكية، والشافعية، والحنفية ونحوهم، بل هو موجود في الطوائف التي لا تنتحل السنة والجماعة، والحديث، ولا مذهب السلف، مثل الشيعة وغيرهم، ففيهم في طرفي الإثبات والنفي ما لا يوجد في هذه الطوائف. وكذلك في أهل الكتابين ـ أهل التوراة والإنجيل ـ توجد هذه المذاهب المتقابلة في النفي والإثبات، وكذلك الصابئة من الفلاسفة وغيرهم لهم تقابل في النفي والإثبات، حتى إن منهم من يثبت ما لا يثبته كثير من متكلمة الصفاتية، ولكن جنس الإثبات على المتبعين للرسل أغلب، من الذين آمنوا واليهود والنصارى والصابئة المهتدين. وجنس النفي على غير المتبعين للرسل أغلب، من المشركين والصابئة المبتدعة. وقد ذكرنا ـ في غير هذا الجواب ـ مذهب سلف الأمة وأئمتها بألفاظها وألفاظ من نقل ذلك من جميع الطوائف، بحيث لا يبقى لأحد من الطوائف اختصاص بالإثبات. ومن ذلك ما ذكره شيخ الحرمين أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي، في كتابه الذي سماه [الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول، إلزامًا لذوي البدع والفضول]، وكان من أئمة الشافعية، ذكر فيه من كلام الشافعي، ومالك، والثوري، وأحمد بن حنبل، والبخاري ـ صاحب الصحيح ـ / وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، والأوزاعي، والليث بن سعد، وإسحاق بن راهويه في أصول السنة ما يعرف به اعتقادهم. وذكر في تراجمهم ما فيه تنبيه على مراتبهم ومكانتهم في الإسلام، وذكر أنه اقتصر في النقل عنهم دون غيرهم؛ لأنهم هم المقتدى بهم والمرجوع شرقًا وغربًا إلى مذاهبهم؛ ولأنهم أجمع لشرائط القدوة والإمامة من غيرهم، وأكثر لتحصيل أسبابها وأدواتها، من جودة الحفظ والبصيرة، والفطنة والمعرفة بالكتاب، والسنة، والإجماع والسند والرجال، والأحوال، ولغات العرب، ومواضعها، والتاريخ، والناسخ، والمنسوخ، والمنقول، والمعقول، والصحيح، والمدخول في الصدق، والصلابة، وظهور الأمانة، والديانة، ممن سواهم. قال: وإن قصر واحد منهم في سبب منها، جبر تقصيره قرب عصره من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، باينوا هؤلاء بهذا المعنى من سواهم، فإن غيرهم من الأئمة ـ وإن كانوا في منصب الإمامة ـ لكن أخلَّوا ببعض ما أشرت إليه مجملاً من شرائطها؛ إذ ليس هذا موضعًا لبيانها. قال: ووجه ثالث لابد من أن نبين فيه، فنقول: إن في النقل عن هؤلاء إلزامًا للحجة على كل من ينتحل مذهب إمام يخالفه في العقيدة، فإن أحدهما لا محالة يضلل صاحبه، أو يبدعه، أو يكفره، فانتحال مذهبه ـ مع مخالفته / له في العقيدة ـ مستنكر ـ والله ـ شرعًا وطبعًا، فمن قال: أنا شافعي الشرع، أشعري الاعتقاد، قلنا له : هذا من الأضداد، لا بل من الارتداد؛ إذ لم يكن الشافعي أشعري الاعتقاد. ومن قال: أنا حنبلي في الفروع، معتزلي في الأصول، قلنا: قد ضللت إذًا عن سواء السبيل فيما تزعمه؛ إذ لم يكن أحمد معتزلي الدين والاجتهاد. قال:وقد افتتن ـ أيضًا ـ خلق من المالكية بمذاهب الأشعرية،وهذه ـ والله ـ سُبَّة وعار، وفلتة تعود بالوبال والنكال، وسوء الدار على منتحل مذاهب هؤلاء الأئمة الكبار، فإن مذهبهم ما رويناه: من تكفيرهم الجهمية، والمعتزلة والقدرية والواقفية وتكفيرهم اللفظية. وبسط الكلام في مسألة اللفظ إلى أن قال: فأما غير ما ذكرناه من الأئمة، فلم ينتحل أحد مذهبهم فلذلك لم نتعرض للنقل عنهم. قال: فإن قيل: فهلا اقتصرتم إذاً على النقل عمن شاع مذهبه وانتحل اختياره من أصحاب الحديث، وهم الأئمة؛ الشافعي، ومالك، والثوري، وأحمد، إذ لا نرى أحدًا ينتحل مذهب الأوزاعي والليث وسائرهم ؟ قلنا: لأن من ذكرناه من الأئمة ـ سوى هؤلاء ـ أرباب المذاهب في الجملة، إذ كانوا قدوة في عصرهم، ثم اندرجت مذاهبهم الآخرة تحت مذاهب الأئمة المعتبرة. وذلك أن ابن عيينة كان قدوة، ولكن لم يصنف في / الذي كان يختاره من الأحكام، وإنما صنف أصحابه، وهم الشافعي، وأحمد، وإسحاق، فاندرج مذهبه تحت مذاهبهم. وأما الليث بن سعد، فلم يقم أصحابه بمذهبه، قال الشافعي: لم يرزق الأصحاب إلا أن قوله يوافق قول مالك أو قول الثوري لا يخطئهما، فاندرج مذهبه تحت مذهبهما. وأما الأوزاعي، فلا نرى له في أعم المسائل قولاً إلا ويوافق قول مالك، أو قول الثوري أو قول الشافعي فاندرج اختياره ـ أيضًا ـ تحت اختيار هؤلاء. وكذلك اختيار إسحاق يندرج تحت مذهب أحمد لتوافقهما. قال: فإن قيل: فمن أين وقعت على هذا التفصيل والبيان في اندراج مذاهب هؤلاء تحت مذاهب الأئمة؟ قلت: من التعليقة للشيخ أبي حامد الإسفرائيني، التي هي ديوان الشرائع، وأم البدائع في بيان الأحكام، ومذاهب العلماء الأعلام، وأصول الحجج العظام، في المختلف والمؤتلف. قال: وأما اختيار أبي زُرْعَة، وأبي حاتم في الصلاة والأحكام ـ مما قرأته وسمعته من مجموعيهما ـ فهو موافق لقول أحمد ومندرج تحته وذلك مشهور. وأما البخاري فلم أر له اختيارًا، ولكن سمعت محمد بن طاهر الحافظ يقول: استنبط البخاري في الاختيارات مسائل موافقة لمذهب أحمد وإسحاق. فلهذه المعاني نقلنا عن الجماعة الذين سميناهم، دون غيرهم؛ إذ هم أرباب / المذاهب في الجملة، ولهم أهلية الاقتداء بهم لحيازتهم شرائط الإمامة، وليس من سواهم في درجتهم، وإن كانوا أئمة كبراء قد ساروا بسيرهم. ثم ذكر بعد ذلك الفصل الثاني عشر: في ذكر خلاصة تحوي مناصيص الأئمة بعد أن أفرد لكل منهم فصلاً قال: لما تتبعت أصول ما صح لي روايته، فعثرت فيها بما قد ذكرت من عقائد الأئمة، فرتبتها عند ذلك على ترتيب الفصول التي أثبتها، وافتتحت كل [فصل] بنيف من المحامد، يكون لإمامتهم إحدى الشواهد، داعية إلى اتباعهم، ووجوب وفاقهم، و تحريم خلافهم وشقاقهم، فإن اتباع من ذكرناه من الأئمة في الأصول في زماننا بمنزلة اتباع الإجماع الذي يبلغنا عن الصحابة والتابعين؛ إذ لا يسع مسلمًا خلافه، ولا يعذر فيه، فإن الحق لا يخرج عنهم؛ لأنهم الأدلاء، وأرباب مذاهب هذه الأمة، والصدور والسادة، والعلـماء القـادة، أولـو الــدين والــديانة، والصــدق والأمانة، والعــلم الوافر،والاجتهاد الظاهر؛ ولهذا المعنى اقتدوا بهم في الفروع، فجعلوهم فيها وسائل بينهم وبين الله، حتى صاروا أرباب المذاهب في المشارق والمغارب، فليرضوا كذلك بهم في الأصول فيما بينهم وبين ربهم وبما نصوا عليه ودعوا إليه. قال: فإنا نعلم قطعًا أنهم أعرف قطعًا بما صح من معتقد رسول اللهصلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، لجودة معارفهم وحيازتهم شرائط الإمامة، ولقرب عصرهم من الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما بيناه في أول الكتاب. / قال: ثم أردت ـ ووافق مرادي سؤال بعض الإخوان ـ أن أذكر خلاصة مناصيصهم متضمنة بعض ألفاظهم، فإنها أقرب إلى الحفظ، وهي اللباب لما ينطوي عليه الكتاب، فاستعنت بمن عليه التكلان، وقلت: إن الذي آثرناه من مناصيصهم يجمعه فصلان: أحدهما: في بيان السنة وفضلها. والثاني :في هجران البدعة وأهلها. أما الفصل الأول: فاعلم أن [السنة] طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتسنن بسلوكها وإصابتها. وهي أقسام ثلاثة :أقوال، وأعمال، وعقائد. فالأقوال: نحو الأذكار والتسبيحات المأثورة. والأفعال: مثل سنن الصلاة والصيام والصدقات المذكورة، ونحو السير المرضية، والآداب المحكية ، فهذان القسمان في عداد التأكيد والاستحباب، واكتساب الأجر والثواب. والقسم الثالث: سنة العقائد، وهي من الإيمان إحدى القواعد. قال: وها أنذا أذكر ـ بعون الله ـ خلاصة ما نقلته عنهم مفرقًا، وأضيف إليه ما دُوِّن في كتب الأصول مما لم يبلغني عنهم مطلقًا، وأرتبها مرشحة، وببعض مناصيصهم موشحة، بأوجز لفظ على قدر وسعي، ليسهل حفظه على من يريد أن يعي، فأقول: ليعلم المستن أن سنة العقائد على ثلاثة أضرب: ضرب يتعلق بأسماء الله، وذاته، وصفاته، وضرب يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه ومعجزاته، وضرب يتعلق بأهل الإسلام في أولاهم وأخراهم. / أما الضرب الأول: فلنعتقد أن لله أسماء وصفات قديمة غير مخلوقة، جاء بها كتابه، وأخبر بها الرسول أصحابه، فيما رواه الثقات، وصححه النقاد الأثبات ودل القرآن المبين، والحديث الصحيح المتين على ثبوتها . قال ـ رحمه الله تعالى ـ وهي أن الله ـ تعالى ـ أول لم يزل، وآخر لا يزال، أحد قديم وصمد كريم، عليم حليم عليٌّ عظيم، رفيع مجـيد وله بطش شديـد، وهـو يبدئ ويعيد، فعال لما يريد، قوي قدير، منيع نصير، قال مالك: إن الله في السماء وعلمه في كل مكان، وقال عبد الله بن المبارك: نعرف ربنا فوق سبع سمواته على العرش بائنا من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية: إنه هاهنا، وأشار إلى الأرض، وقال سفيان الثوري: وأن الكلم الطيب يصعد إليه، وتعرج الملائكة والروح إليه، وأنه خلق آدم بيديه، وخلق القلم وجنة عدن وشجرة طوبى بيديه،وكتب التوراة بيديه، وأن كلتا يديه يمين، وقال ابن عمر: خلق الله بيديه أربعة أشياء: آدم، والعرش، والقلم، وجنة عدن، وقال لسائر الخلق: كن فكان،وأنه يتكلم بالوحي كيف يشاء، قالت عائشة ـ رضي الله عنها: لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بِوَحْيٍ يُتْلَى. وأن القرآن كلام الله بجميع جهاته منزل غير مخلوق، ولا حَرْفٌ منه مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، قال عبد الله بن المبارك: من كفر بحرف من القرآن فقد كفر، ومن قال: لا أؤمن بهذه اللام فقد كفر، وأن الكتب المنزلة على الرسل مائة وأربعة كتب كلام الله غير مخلوق، قال أحمد: وما في اللوح المحفوظ وما في المصاحف وتلاوة الناس وكيفما يقرأ وكيفما يوصف، فهو كلام الله غير مخلوق، قال البخاري: وأقول: في المصحف قرآن، وفي صدور الرجال قرآن، فمن قال غير هذا يستتاب، فإن تاب وإلا فسبيله سبيل الكفر. قال: وذكر الشافعي المعتقد بالدلائل، فقال: لله أسماء وصفات جاء بها / كتابه، وأخبر بها نبيه أمته، لا يسع أحدًا من خلق الله قامت عليه الحجة ردها ـ إلى أن قال ـ نحو إخبار الله ـ سبحانه ـ إيانا أنه سميع بصير، وأن له يدين لقوله: وأنه يضحك من عبده المؤمن لقوله صلى الله عليه وسلم للذي قتل في سبيل الله: (إنه لقى الله وهو يضحك إليه)، وأنه يهبط كل ليلة إلى سماء الدنيا لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وأنه ليس بأعور، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر الدجال فقال:(إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور)، وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم،كما يرون القمر ليلة البدر، وأن له إصبعًا لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن). قال: وسوى ما نقله الشافعي أحاديث جاءت في الصحاح والمسانيد، وتلقتها الأمة بالقبول والتصديق، نحو ما في الصحيح من حديث الذات، وقوله: (لا شخص أغير من الله)، وقوله: (أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير من سعد، والله أغير مني)، وقوله: (ليس أحد أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله،من أجل ذلك حرم /الفواحش ما ظهر منها وما بطن) ، وقوله: (يد الله ملأى)، وقوله: (بيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع)، وقوله: (إن الله يقبضُ يوم القيامة الأرضين، وتكون السموات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك). ونحوه قوله: (ثلاث حثيات من حثيات الرب)، وقوله: (لما خلق آدم مسح ظهره بيمينه)، وقوله في حديث أبي رزِين: قلت: يا رسول الله، فما يفعل ربنا بنا إذا لقيناه؟ قال:(تعرضون عليه بادية له صفحاتكم، لا يخفى عليه منكم خافية، فيأخذ ربك بيده غرفة من الماء، فينضح قبلكم، فلعمر إلهك ما يخطئ وجه أحدكم منها قطرة). أخرجه أحمد في المسند. وحديث: القبضة التي يخرج بها من النار قومًا لم يعملوا خيرًا قط، قد عادوا حُمَمًا،فيلقيهم في نهر من أنهار الجنة يقال له: نهر الحياة.[وقوله حُمَمًا: أي مثل الفَحْمَة سوادًا]. ونحو الحديث: (رأيت ربي في أحسن صورة)، ونحو قوله:(خلق آدم على صورته)، وقوله: (يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه)، وقوله: (كلم أباك كفاحًا)، وقوله: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان يترجم له) وقوله: (يتجلى لنا ربنا يوم القيامة ضاحكًا) وفي حديث المعراج في الصحيح: (ثم دنا الجبار رب العزة، فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى)، وقوله: (كتب كتابًا، فهو عنده فوق العرش: / إن رحمتي سبقت غضبي)، وقوله: (لا تزال جهنم يلقي فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه ـ وفي رواية: رجله ـ فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قَد قَدِ وفي رواية: قَطِ قَطِ ـ بعزتك). ونحو قوله: (فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا)، وقوله: (يحشر الله العباد، فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ: أنا الملك، أنا الديان). إلى غيرها من الأحاديث، هالتنا أو لم تهلنا، بلغتنا أو لم تبلغنا اعتقادنا فيها، وفي الآي الواردة في الصفات: أنا نقبلها ولا نحرفها ولا نكيفها ولا نعطلها ولانتأولها، وعلى العقول لا نحملها، وبصفات الخلق لا نشبهها، ولا نُعْمل رأينا وفكرنا فيها، ولا نزيد عليها ولا ننقص منها، بل نؤمن بها ونَكِل علمها إلى عالمها، كما فعل ذلك السلف الصالح، وهم القدوة لنا في كل علم. روينا عن إسحاق أنه قال: لا نزيل صفة مما وصف الله بها نفسه، أو وصفه بها الرسول عن جهتها، لا بكلام ولا بإرادة، إنما يلزم المسلم الأداء ويوقن بقلبه أن ما وصف الله به نفسه في القرآن إنما هي صفاته، ولا يعقل نبي مرسل، ولا ملك مقرب تلك الصفات إلا بالأسماء التي عرفهم الرب ـ عز وجل ـ فأما أن يدرك أحد من بني آدم تلك الصفات فلا يدركه أحد ـ الحديث إلى آخره. / وكما روينا عن مالك، والأوزاعي، وسفيان، والليث، وأحمد بن حنبل، أنهم قالوا في الأحاديث في الرؤية والنزول: أمِرُّوها كما جاءت. وكما روى عن محمد بن الحسن ـ صاحب أبي حنيفة ـ أنه قال في الأحاديث التي جاءت: (إن الله يهبط إلى السماء الدنيا) ونحو هذا من الأحاديث: إن هذه الأحاديث قد رواها الثقات، فنحن نرويها ونؤمن بها، ولا نفسرها. انتهى كلام الكرجي ـ رحمه الله تعالى. والعجب أن هؤلاء المتكلمين، إذا احتج عليهم بما في الآيات والأحاديث من الصفات قال: قالت الحنابلة: إن الله، كذا وكذا، بما فيه تشنيع وترويج لباطلهم، والحنابلة اقتفوا أثر السلف، وساروا بسيرهم، ووقفوا بوقوفهم، بخلاف غيرهم، والله الموفق. النوع الثاني: أن هذا الكلام ليس فيه من الحجة والدليل ما يستحق أن يخاطب به أهل العلم، فإن الرد بمجرد الشتم والتهويل لا يعجز عنه أحد، والإنسان لو أنه يناظر المشركين، وأهل الكتاب، لكان عليه أن يذكر من الحجة ما يبين به الحق الذي معه، والباطل الذي معهم، فقد قال الله ـ عز وجل ـ لنبيه / صلى الله عليه وسلم: فلو كان خصم من يتكلم بهذا الكلام ـ سواء كان المتكلم به أبو الفرج أو غيره، من أشهر الطوائف بالبدع كالرافضة ـ لكان ينبغي أن يذكر الحجة، ويعدل عما لا فائدة فيه؛ إذ كان في مقام الرد عليهم، دع والمنازعون له ـ كما ادعاه ـ هم عند جميع الناس أعلم منه بالأصول والفروع. وهو في كلامه ورده لم يأت بحجة أصلاً لا حجة سمعية، ولا عقلية ـ وإنما اعتمد تقليد طائفة من أهل الكلام ـ قد خالفها أكثر منها من أهل الكلام ـ فقلدهم فيما زعموا أنه حجة عقلية، كما فعل هذا المعترض. ومن يرد على الناس بالمعقول إن لم يبين حجة عقلية، وإلا كان قد أحال الناس على المجهولات، كمعصوم الرافضة، وغوث الصوفية. فأما قوله: إن مثل هؤلاء لا يحدثون، فيقال له: قد بعث الله الرسل إلى جميع الخلق ليدعوهم إلى الله، فمن الذي أسقط الله مخاطبته من الناس ؟ دع من تعرف أنت وغيرك ممن فضلهم الله ما ليس هذا موضعه،ولو أراد سفيه أن يرد على الراد بمثل رده لم يعجز عن ذلك. وكذلك قوله: إنهم يكابرون العقول. فنقول: المكابرة للعقول / إما أن تكون في إثبات ما أثبتوه، وإما أن تكون في تناقضهم بجمع من إثبات هذه الأمور ونفي الجوارح. أما الأول: فباطل؛ فإن المجسمة المحضة التي تصرح بالتجسيم المحض، وتغلو فيه لم يقل أحد قط: إن قولها مكابرة للعقول، ولا قال أحد: إنهم لا يخاطبون، بل الذين ردوا على غالية المجسمة ـ مثل هشام بن الحكم وشيعته ـ لم يردوا عليهم من الحجج العقلية إلا بحجج تحتاج إلى نظر واستدلال، والمنازع لهم ـ وإن كان مبطلاً في كثير مما يقوله ـ فقد قابلهم بنظير حججهم، ولم يكونوا عليه بأظهر منه عليهم، إذ مع كل طائفة حق وباطل. وإذا كان مثل أبي الفرج ابن الجوزي إنما يعتمد في نفي هذه الأمور على ما يذكره نفاة النظار، فأولئك لا يكادون يزعمون في شيء من النفي والإثبات أنه مكابرة للمعقول، حتى جاحدوا الصانع، الذين هم أجهل الخلق وأضلهم وأكفرهم، وأعظمهم خلافًا للعقول ـ لا يزعم أكثر هؤلاء الذين انتصر بهم أبو الفرج: أن قولهم مكابرة للعقول، بل يزعمون أن العلم بفساد قولهم إنما يعلم بالنظر والاستدلال. وهذا القول ـ وإن كان يقوله جل هؤلاء النفاة من أهل الكلام، فليس هو طريقة مرضية، لكن المقصود: أن هؤلاء النفاة لا يزعمون أن العلم بفساد / قول المثبتة معلوم بالضرورة ولا أن قولهم مكابرة للعقل، وإن شنعوا عليهم بأشياء ينفر عنها كثير من الناس، فذاك ليستعينوا بنفرة النافرين على دفعهم، وإخماد قولهم، لا لأن نفور النافرين عنهم يدل على حقٍّ أو باطل، ولا لأن قولهم مكابرة للعقل، أو معلوم بضرورة العقل، أو ببديهته فساده. هذا لم أعلم أحدًا من أئمة النفاة ـ أهل النظر ـ يدعيه في شيء من أقواله المثبتة، وإن كان فيها من الغلو ما فيها. ومن المعلوم أن مجرد نفور النافرين، أو محبة الموافقين، لا يدل على صحة قول ولا فساده إلا إذا كان ذلك بهدى من الله، بل الاستدلال بذلك هو استدلال باتباع الهوى بغير هدى من الله. فإن اتباع الإنسان لما يهواه هو أخذ القول والفعل الذي يحبه، ورد القول والفعل الذي يبغضه بلا هدى من الله. قال تعالى: وقال تعالى: فمن اتبع أهواء الناس بعد العلم الذي بعث الله به رسوله وبعد هدى الله الذي بينه لعباده، فهو بهذه المثابة؛ ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع والتفرق ـ المخالفين للكتاب والسنة ـ أهل الأهواء، حيث قبلوا ما أحبوه، وردوا ما أبغضوه بأهوائهم بغير هدى من الله. وأما قول المعترض عن أبى الفرج: ـ وكأنهم يخاطبون الأطفال ـ فلم تخاطب الحنابلة إلا بما ورد عن الله ورسوله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، الذين هم أعرف بالله وأحكامه، وسلمنا لهم أمر الشريعة، وهم قدوتنا فيما أخبروا عن الله وشرعه، وقد أنصف من أحال عليهم، وقد شاقق من خرج عن طريقتهم، وادعى أن غيرهم أعلم بالله منهم، أو أنهم علموا وكتموا، وأنهم لم يفهموا ما أخبروا به، أو أن عقل غيرهم في [باب معرفة الله] أتم، وأكمل، وأعلم مما نقلوه، وعقلوه، وقد قدمنا ما فيه كفاية في هذا الباب، والله الموفق، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.
|